فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم والقائلين بعبادة الأوثان ورابعها: قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وفيه سؤالات:
الأول: هل في قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد؟ والجواب: نعم من وجهين: الأول: أن قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد، والثاني: وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك، والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلًا قال: هاهنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد، ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم، قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقًا في قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110] وقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] وثانيها: أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد وثالثها: أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديرًا ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره، فثبت بهذه الوجوه أنه لابد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه، فكيف ولا دلالة فيها ألبتة، لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير، وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب:
أما قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ} وقوله: {أَحْسَنُ الخالقين} فهما معارضان بقوله: {الله خالق كُلّ شَىْء} [الزمر: 62] وبقوله: {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله} [فاطر: 3] وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد، قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظرًا إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له؟ وأما قوله: الخلق لا يتناول إلا الأجسام، فنقول لو كان كذلك لكان قوله: {خَلَقَ كُلَّ شَىْء} خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها.
السؤال الثاني: في الخلق معنى التقدير فقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} معناه وقدر كل شيء فقدره تقديرًا؟ والجواب: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثًا يراعي فيه التقدير والتسوية، فقدره تقديرًا وهيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المستوي الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقًا لما قدر له غير متخلف عنه.
السؤال الثالث: هل في قوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} دلالة على مذهبكم؟ الجواب: نعم وذلك من وجوه: أحدها: أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان، أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه، وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة، فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلًا وانقلاب خبره الصدق كذبًا، وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به، فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان، وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه وثانيها: أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل، كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى، وحينئذ يبطل قول المعتزلة، وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح، فالكلام يعود في ذلك المرجح، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود وثالثها: أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده، لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل، فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك، فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل، قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلابد من الانتهاء إلى جهل أول، ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق، بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب، وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم، فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ، وهو المراد من قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه: أحدها: أنها ليست خالقة للأشياء، والإله يجب أن يكون قادرًا على الخلق والإيجاد وثانيها: أنها مخلوقة والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيًا وثالثها: أنها لا تملك لأنفسها ضرًا ولا نفعًا، ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضًا نفعًا، ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته ورابعها: أنها لا تملك موتًا ولا حياة ولا نشورًا، أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانيًا في زمان المجازاة، ومن كان كذلك كيف يسمى إلهًا؟ وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة، وههنا سؤالات:
الأول: قوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة؟ والجواب: قال القاضي: بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع، فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لمعبودهم كثرة، ولقائل أن يقول قوله: {واتخذوا} صيغة جمع وقوله: {ءالِهَةً} جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد، فلم يكن كون معبود النصارى واحدًا مانعًا من دخوله تحت هذا اللفظ.
السؤال الثاني: احتج بعض أصحابنا بقوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال: إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئًا، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقًا لكان معبودًا إلهًا، أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى.
وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى، ثم قال: وقد قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد؟ فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم، وقد قال تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] هذا كله كلام الكعبي والجواب: قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد، قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازًا في الله تعالى، فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟ أما قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته.
وأما قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فقد تقدم الكلام عليه.
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين: أحدهما أنهم ليسوا بخالقين، والثاني أنهم مخلوقون، والعبد وإن كان خالقًا إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلهًا معبودًا.
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على البعث؟ الجواب: نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادرًا على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {تَبَارَكَ} في تبارك ثلاثة أوجه:
أحدها: تفاعل مع البركة، قاله ابن عباس.
الثاني: أنه الذي يجيىء البركة من قِبَلِهِ، قاله الحسن.
الثالث: خالق البركة: قاله إبراهيم.
وفي البركة ثلاثة أقاويل:
أحدها: العلو. الثاني: الزيادة.
الثالث: العظمة. فيكون تأويله على الوجه الأول: تعالى، وعلى الوجه الثاني تزايد، وعلى الوجه الثالث: تعاظم.
و{الْفُرْقَانَ} هو القرآن وقيل إنه اسم لكل كتاب منزل كما قال تعالى: {وَإِذ ءَاتَينَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفَرْقَانَ} وفي تسميته فرقانًا وجهان:
أحدهما: لأنه فرق بين الحق والباطل.
الثاني: لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش.
{عَلَى عَبْدِهِ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن الزبير {عَلَى عِبَادِهِ} بالجمع.
{لِيَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيرًا} فيه قولان:
أحدهما: ليكون محمد نذيرًا، قاله قتادة، وابن زيد.
الثاني: ليكون الفرقان، حكاه ابن عيسى. والنذر: المحذر من الهلاك، ومنه قول الشاعر:
فلما تلاقينا وقد كان منذر ** نذيرًا فلم يقبل نصيحة ذي النذر

والمراد بالعالمين هنا الإِنس والجن لأن النبي صلى الله عليه قد كان رسولًا إليهما ونذيرًا لهما وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوحًا فإنه عم برسالته جميع الإِنس بعد الطوفان لأنه بدأ به الخلق، واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين:
أحدهما: عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة.
الثاني: خاصة بقومه لأنه ما تجاوزهم بدعائه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{تبارك} وزنه تفاعل وهو مطاوع بارك من البركة، وبارك فاعل من واحد معناه زاد، و{تبارك} فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل في غيره، ولذلك لم يصرف منه مستقبل ولا اسم فاعل، وهو صفة فعل أي كثرت بركاته ومن جملتها إنزال كتابه الذي هو {الفرقان} بين الحق والباطل، وصدر هذه السورة إنما هو رد على مقالات كانت لقريش، فمن جملتها قولهم إن القرآن افتراه محمد صلى الله عليه وسلم وإنه ليس من عند الله فهو ردّ على هذه المقالة، وقرأ الجمهور {على عبده} وقرأ عبد الله بن الزبير {على عباده}.
والضمير في قوله: {ليكون} يحتمل أن يكون وهو عبده المذكور وهذا تأويل ابن زيد، ويحتمل أن يكون ل {الفرقان}، وأما على قراءة ابن الزبير فهو ل {الفرقان} لا يحتمل غير ذلك إلا بكره، وقوله: {للعالمين} عام في كل إنسي وجني عاصره أو جاء بعده وهو متأيد من غير ما موضع من الحديث المتواتر وظاهر الآيات، والنذير المحذر من الشر والرسول من عند الله نذير، وقد يكون {نذيرًا} ليس برسول كما روي في ذي القرنين وكما ورد في رسل رسل الله إلى الجن فإنهم نذر وليسوا برسل الله.
وقوله: {الذي له ملك السماوات} الآية هي من الرد على قريش في قولهم إن لله شريكًا، وفي قولهم اتخذ البنات، وفي قولهم في التلبية إلا شريك هو لك، وقوله: {خلق كل شيء}، هو عام في كل مخلوق وتقدير الأشيء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان، ثم عقب تعالى ذكر هذه الصفات التي هي للألوهية بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لهم هذه الصفات، فالعقل يعطي أنهم ليسوا بآلهة وقوله، {وهم يخلقون}، يحتمل أن يريد يخلقهم الله بالاختراع والإيجاد، ويحتمل أن يريد يخلقهم البشر بالنحت والنجارة وهذا التأويل أشد إبداء لخساسة الأصنام، وخلق البشر تجوز ولكن العرب تستعمله ومنه قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ** ـض القوم يخلق ثم لا يفري

وهذا من قولهم خلقت الجلد إذا عملت فيه رسومًا يقطع عليها والفري هو أن يقطع على ترك الرسوم، وقوله، {موتًا ولا حياة} يريد إماتة ولا إحياء، والنشور بعث الناس من القبور. اهـ.